جامع قبلي القديمة
- مدينة قبلي
الجامع الكبير بقبلي القديمة

التأسيس والنشأة
يُعتبر الجامع الكبير بقبلي القديمة من المعالم الدينية والتاريخية البارزة في ولاية قبلي في الجنوب الغربي تونس، ويُعد مركزًا روحيًا وعلميًا أساسيًا للمدينة منذ نشأته. تشير المصادر المحلية إلى أن تأسيسه يعود إلى القرن السادس عشر الهجري، الموافق تقريبًا لسنة 960 هـ / 1553 م، معتمداً على النقوش التذكارية التقليدية والذاكرة المحلية. وقد خضع الجامع لأعمال إعادة بناء وتجديد واسعة في أوائل القرن العشرين، حوالى سنة 1939م–1943م، بما عزز من متانته وحافظ على استمرارية دوره الديني والاجتماعي.
الموقع والبيئة العمرانية
يقع الجامع في قلب المدينة القديمة لقبلّي، ضمن النسيج التاريخي العريق للمدينة، وهو متصل بشكل مباشر بسوق الزنايدية الشهير، أحد الشرايين التجارية الرئيسية للمدينة، ويجاوره من جهة القبلة الرصيف القديم للمرسى. كما يقابله من جهة الباب الرئيسي الحمام الكبير، في خصوصية عمرانية متكررة في المدن التونسية التاريخية، مثل جامع القصبة بتونس العاصمة. ويجاور الجامع زاوية سيدي المختار داي، أحد ممثلي الطريقة القادرية بالمدينة.
العمارة والتخطيط
يتميّز الجامع الكبير بتخطيطه التقليدي: صحن مركزي محاط بأروقة يفتح على بيت الصلاة المغطّى، الذي يعتمد على تصميم "هيبوستيل" حيث تُدعّم الأسقف بأعمدة حجرية متكررة. يعكس الجامع تأثراً متنوعاً بالعمارة الإسلامية: عناصر عثمانية في المئذنة والمحراب، وزخارف محلية ومغربية في بيت الصلاة، وقِباب وأنصاف قِباب أندلسية.
• الأبواب: خمسة أبواب تؤدي إلى الصحن وبيت الصلاة، أبرزها الباب الرئيسي المطّل على السوق العريق.
• المئذنة: قائمة على قاعدة مربعة تقليدية، تُظهر تأثير العمارة العثمانية في شمال إفريقيا.
• الصحن الخارجي: فضاء مفتوح يُستعمل أحيانًا كمصلّى إضافي في أوقات الزحام، ويحتوي على ميضأة وبئر.
العناصر الداخلية
• بيت الصلاة: مساحة واسعة، سقف مرتفع، مدعوم بستة وثلاثين عمودًا حجرية متناسقة.
• المحراب: تركي الطابع، مغلف برخام مرمر، مزين بآية قرآنية تذكّر بقدسية المكان.
• المنبر والختمة: منبر خشبي وختمة لتلاوة القرآن قبل الخطبة.
• الإضاءة والتهوية: شبابيك كبيرة وفتحات علوية توفر إضاءة طبيعية وتهوية جيدة، بالإضافة إلى قناديل مزخرفة تزيّن بيت الصلاة.
الدور الديني والعلمي
استقطب الجامع رواد المذهب المالكي، وشكّل فضاءً للتعليم الديني، حيث أُنشئ فيه فرع للتعليم الزيتوني حتى حدود عام 1951م قبل نقله إلى جامع الربع بأمر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. أسهم الجامع في تكوين أجيال من الفقهاء والعلماء المحليين، وكان مركزًا للنشاط الديني والاجتماعي والسياسي والثقافي في قبلي القديمة.
الأئمة والعلماء
ارتبط بالجامع عدد من كبار الأئمة والمدرسين، من بينهم:
• الشيخ إدريس الشريف (1866–1936م)
• الشيخ مختار الدلالي (1876–1974م)
• الشيخ محمد الخضر حسين
• الشيخ محمد صالح الخازن
• الشيخ حمودة بوقطفة
• الشيخ محفوظ الشريف
الترميم والحفظ
خضع الجامع الكبير بعد الاستقلال لعدة أعمال صيانة وترميم لإعادة إحياء رونقه المعماري وحمايته من العوامل الطبيعية، وقد أدرج حديثًا (26 جانفي 2024) ضمن قائمة المعالم الأثرية المحمية من قبل المعهد الوطني للتراث، مما يضمن استمرارية المحافظة عليه كمعلَم ديني وتراثي هام.
القيمة الحضارية
يمثل الجامع الكبير بقبلي القديمة تحفة معمارية متكاملة، تجمع بين مختلف التأثيرات الإسلامية (عثمانية، مغربية، أندلسية)، ويختزن ذاكرة المدينة العتيقة وروحها التاريخية. كما يظل مركزًا حيًا للعبادة والعلم، شاهداً على التفاعل المستمر بين التراث الديني والعمارة الإسلامية في الجنوب التونسي، ويجسد القيم الروحية والتعليمية والثقافية التي تميزت بها مدينة قبلي عبر القرون.


